{قال: قلت: يا رسول الله! علام أبايعك؟ فبسط النبي صلى الله عليه وسلم يده، وقال: على إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وزيال المشرك}، أي: مزايلة المشركين، والمزايلة هي المباعدة والمفارقة، كما قال تعالى: ((فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ))[يونس:28]، أي: باعدنا، وفرقنا بينهم، وكما في قوله سبحانه: ((لَوْ تَزَيَّلُوا))[الفتح:25]، أي: لو تفرقوا وابتعد بعضهم عن بعض، وصار لكلٍ منهم جهة أو مجال مستقل.
ومما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعاهد أصحابه ويبايعهم عليه: أن يبتعدوا عن المشركين وإن كانوا من قومهم، فلابد من مفاصلة، كما قال في الحديث : {لا تتراءى ناراهما}، فيجب على المؤمن مفارقة الكافر والبعد عنه حتى لا يرى نار الكافر، ولا يرى الكافر نار المؤمن، فكل منهم له طريق.. هؤلاء أهل الجنة، وهؤلاء أهل النار، فكيف يلتقون؟ وكيف تكون هناك أخوة إنسانية -كما يقال ويروج له في هذا الزمان زوراً وبهتانا- بين من يشهد أن لا إله إلا الله، من يشهد أن بوذا إله؟! وبين من يعبد الله ومن يعبد الصليب؟! وبين من يتبع محمداً صلى الله عليه وسلم ومن يتبع بولس ؟!
أما الآن -ويا أسفاه- فإنه يؤتى بهم ويساكنوننا!! ويعاشروننا في بلاد الإسلام وديار التوحيد التي أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يخرج منها كل كافر، وأصبحنا نحن وإياهم نأكل ونتمتع كما تأكل الأنعام، والذي ساوى بيننا وبينهم -والله- هو حب الدنيا، ولولاها لما جئنا بهم بحجج وذرائع غير ضرورية، وإنما هي كماليات وإغراق ومبالغة في الترف؛ ولذلك يستقدمون خدماً ومربيات وسائقين.. وكأنه لا يوجد مسلم يحسن ذلك!!.
فمن أجل الدنيا نسينا الآخرة، ونسينا ربنا عز وجل، ونسينا أننا على طريق وهم على طريق؛ فلم نزايلهم.. فعايشناهم وخالطناهم؛ بل قدرناهم وعظمناهم في كلامنا معهم ومعاملتنا لهم، وهذا دليل على أننا أمة تخلينا عن إيماننا وعقولنا، ولم نعتز بديننا، وبأخلاقنا التي كان العرب في الجاهلية يعتزون بها، مع أنهم كانوا يأكلون الميتة، ويعبدون الأصنام، والفرس والروم كانوا في حضارة ومجد وملك، ومع ذلك كله يأتي أعرابي منهم وهو يطوف عند البيت، فيقول:
أتعطي ملوك الروم عزاً ومنعة            وتترك قرماً من قرام تميم
أي: يا رب! كيف تعطي ملوك الروم الدنيا وتترك رجلاً من بني تميم من الأفذاذ؟! فكانت نظرتهم: أننا نحن العرب أفضل؛ بل كانوا يسمون الروم: العلوج؛ فقد كان العرب لا يعتبرون فارس والروم بشراً؛ وذلك لما فيهم من الدياثة، وسوء الخلق.
فكان النبي صلى الله عليه وسلم يبايع الصحابة على إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وزيال ومفارقة المشركين والمباعدة عن ديارهم.
قال: {وأن لا تشرك بالله إلهاً غيره}، وهي الوصية العظمى الخالدة أبد الدهر لكل إنسان: ألا يشرك بالله تعالى غيره.
{قال: قلت: يا رسول الله! وإن لنا ما بين المشرق والمغرب}، أي: اجعل لنا شرطاً وهو: أن لنا الديار ما بين المشرق والمغرب.
{فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم يده}، أي: امتنع عن مبايعته على أن له ما بين المشرق والمغرب.
قال: {وظن أني مشترط ما لا يعطينيه، قال: قلت: نحلّ منها حيث شئنا، ولا يجني امرؤ إلا على نفسه}، أي: أنا لم أقصد أن تملكنا الأرض، لكن نحل حيث نريد، ونرعى حيث نريد، وننزل في أي مكان، (ولا يجني امرؤ إلا على نفسه) فإذا نزلنا في أي مكان وحدثت جناية، فالجاني مؤاخذ بما جنى.
قال: {فبسط يده، وقال: لك ذلك، تحل حيث شئت، ولا يجني عليك إلا نفسُك، قال: فانصرفنا عنه، ثم قال: ها إن ذين، ها إن ذين -مرتين- لعمر إلهك من أتقى الناس في الأولى والآخرة}.
ها إن ذين) الهاء للتنبيه، أي: إن هذين الرجلين، وهما: لقيط بن عامر، ونهيك من بني المنتفق، من أتقى الناس في الدنيا والآخرة، شهد لهما بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم.